الحمد لله وحده والصلاة
والسلام على نبيه وعبده ، وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن مسألة العذر بالجهل قد
شطرت الناس إلى قسمين ، قسم يكفر مرتكب الشرك الأكبر ولا يعذره بالجهل في حكم
الدنيا وإن لن يتطرق لحكمه في الآخرة أهو في النار أم في الجنة،
وهذا قول جميع أئمة
الدعوة رحمهم الله ،وصنفوا فيها مصنفات كثيرة
وردوا على مبتدعة عصرهم بالحجج والبراهين ، وتبعهم علماء عصرنا المعتبرين على هذا
وفتاويهم منشورة ، ثم نبتت نابتة عذرت فاعل الشرك بالجهل وأنه لا يعرف حرمة ذلك
الأمر ، واستدلوا بأدلة على قولهم هذا وتبعهم بعض من لم يفهم ، ثم اتخذوها
ذريعة للطعن في اصحاب القول الأول أنهم حدادية وأنهم يسعون لتفريق الصف السلفي
وإسقاط العلماء ، وقد اسدلوا بآيات رأوها حجة لقولهم ، وأحببت في هذا المختصر بيان
أن تعلقهم بتلك النصوص لا يصح على منهج السلف ، وبيان ذلك يكون بنقل اقوال
المفسرين المعتبرين ليتبين لكل طالب للحق من أسعد الطائفتين بالدليل والله أسأل أن
يرزقني الإخلاص ويوفقني لإتمام البحث ، والآن مع المراد.
وأول الآيات التي يستدلون
بها هي قوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) .
وإلى أقوال بعض أهل التفسير:
قال الطبري في تفسيره (17/402):
وقوله( وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا
بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم.
كما حدثنا بشر ، قال: ثنا
يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولا ) : إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا، أو
يأتيه من الله بيِّنة، وليس معذّبا أحدا إلا بذنبه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى،
قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي هريرة، قال: إذا كان يوم
القيامة، جمع الله تبارك وتعالى نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصمّ
والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا، ثم أرسل رسولا أن ادخلوا النار،
فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول، وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ثم
يرسل إليهم، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل؛ قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم(
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ).
حدثنا القاسم ، قال: ثنا
الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة نحوه.
وفي التفسير القيم لابن
القيم: بعد أن قرر قبح الشرك عقلا :
ولكن ههنا أمر آخر وهو أن
العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا
بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقوله وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا
يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقوله ذلك أن لم يكن ربك
مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل وأنه لا
يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم فالآية رد على الطائفتين معا من يقول إنه
لا يثبت الظلم والقبح إلا بالسمع ومن يقول إنهم معذبون على ظلمهم بدون السمع.ا.هـ
في كلام ماتع جدا يكتب بماء
العيون.
وقال ابن عطية في المحرر
الوجيز:
وقوله { وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولاً } قالت فرقة هي الجمهور : هذا في حكم الدنيا ، أي إن الله لا يهلك أمة
بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار ، وقالت فرقة : هذا عام في الدنيا
والآخرة .
قال القاضي أبو محمد :
وتلخيص هذا المعنى : أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في
الدنيا ، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة ، ويؤيد ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند
إرادته إهلاك قرية ، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب
الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة
الرسل ، كقوله تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا
بلى } [ الملك : 8-9 ] ، وظاهر { كلما } [ الملك : 8 ] الحصر ، وكقوله تعالى : {
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] ، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم
عليه السلام بالتوحيد وبَثِ المعتقدات في نبيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع
سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله ، ثم تجدد ذلك
في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار ، وهذه الآية أيضاً يعطي احتمال ألفاظها
نحو هذا ، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر
وجودهم بعض أهل العلم ، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى
المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليس دار
تكليف .
وفي تفسير ابن أبي زمنين:
وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا تفسير الحسن لا يعذب قوما بالاستئصال حتى يحتج عليهم بالرسل.
وقال الألوسي:
وإنما علل ما ذكر بانتفاء
التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء
مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا
مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسرارء : 15 ] على ما اختاره أهل السنة
في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه
وآكده .
وفي البحر المحيط لأبي حيان:
{ وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولاً } انتفاء التعذيب ببعثة الرسول عليه السلام ، والمعنى حتى يبعث رسولاً
فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند الله ، وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في
الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما ، ويدل على
الشمول قوله في الهلاك في الدنيا بعد هذه الآية { وإذا أردنا } وفي الآخرة { فحق
عليها القول فدمرناها تدميراً } وآي كثيرة نص فيها على الهلاك في الدنيا بأنواع من
العذاب حين كذبت الرسل.
وقوله في عذاب الآخرة كلما
ألقى فيها فوج سألهم خزنتها : ألم يأتكم نذير؟ وقالوا : بلى قد جاءنا نذير ، وكلما
تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين.
وقوله : { وإن من أمة إلا
خلا فيها نذير } وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكم الدنيا ، أي إن الله لا يهلك أمّة
بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار.
وقال البغوي:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولا } إقامة للحجة وقطعا للعذر، وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل .
0 التعليقات:
إرسال تعليق