و قبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة و قد كان يليق أن
تذكر في أول المسألة الأولى و ذكرها هنا مناسب أيضا لينكشف سر المسألة و ذلك أن نقول : إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا
و باطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده
هذا مذهب الفقهاء و سائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول و عمل
و قد قام
الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهوية ـ و هو أحد الأئمة
يعدل بالشافعي و أحمد ـ : [ و قد أجمع المسلمون أن من سب نبيا من أنبياء الله أو سب
رسول الله عليه الصلاة و السلام أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله
أنه كافرا بذلك و إن كان مقرا بما أنزل الله ]
و كذلك
قال محمد بن سحنون ـ و هو أحد الأئمة من أصحاب مالك و زمنه قريب من هذه الطبقة ـ :
[ أجمع العلماء أن شاتم النبي عليه الصلاة و السلام المنتقض له كافر و الوعيد جار عليه
بعذاب الله و حكمه عند الأمة القتل و من شك في كفره و عذابه كفر ]
قال أيضا رحمه الله(2/1025)
و أيضا فإن السب ذنب منفرد عن الكفر الذي يطابق
الاعتقاد فإن الكافر يتدين بكفره و يقول : إنه حق و يدعو إليه و له عليه موافقون و
ليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافا و استهزاء و سبا لله و إن كان في الحقيقة
سبا كما أنهم يقولون : إنهم ضلال جهال معذبون أعداء الله و إن كانوا كذلك و أما الساب
فإنه مظهر للتنقص و الاستخفاف و الاستهانة بالله منتهك لحرمته انتهاكا يعلم هو من نفسه
أنه منتهك مستخف مستهزىء و يعلم من نفسه أنه قد قال عظيما و أن السموات و الأرض تكاد
تنفطر من مقالته و تخر الجبال و أن ذلك أعظم من كل كفر و هو يعلم أن ذلك كذلك
و لو قال
بلسانه : إني كنت لا اعتقد وجود الصانع و لا عظمته و الآن قد رجعت عن ذلك علمنا أنه
كاذب فإن فطرة الخلائق كلها مجبولة على الاعتراف بوجود الصانع و تعظيمه فلا شبهة تدعوه
إلى هذا السب و لا شهوة له في ذلك بل هو مجرد سخرية و استهزاء و استهانة و تمرد على
رب العالمين تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب أو من سفيه لا وقار لله عنده كصدور
قطع الطريق و الزنا عن الغضب و الشهوة و إذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبة تخصه
حدا من الحدود و حينئذ فلا تسقط تلك العقوبة بإظهار التوبة كسائر الحدود
و مما بين
أن السب قدر زائد على الكفر قوله تعالى : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا
الله عدوا بغير علم } [ الأنعام : 108 ]
و من المعلوم
أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله ثم نهي المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعة إلى
سبهم لله أعظم عنده من يشرك به و يكذب رسوله و يعادى فلا بد له من عقوبة تختصه لما
انتهكه من حرمة الله كسائر الحرمات التي تنتهكها بالفعل و أولى فلا يجوز أن يعاقب على
ذلك بدون القتل لأن ذلك أعظم الجرائم فلا يقابل إلا بأبلغ العقوبات
وقال رحمه الله(2/1041)
السب الذي ذكرنا حكمه من المسلم هو : الكلام الذي
يقصد به الانتقاص و الاستخفاف و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم
كالعن و التقبيح و نحوه و هو الذي دل عليه قوله تعالى : { و لا تسبوا الذين يدعون من
دون الله فيسيبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام : 108 ]
فهذا أعظم ما تفوه به الألسنة فأما ما كان سبا في
الحقيقة و الحكم لكن من الناس من يعتقده دينا و يراه صوابا و حقا و يظن أن ليس فيه
انتقاص و لا تعييب فهذا نوع من الكفر حكم صاحبه إما حكم المرتد المظهر للردة أو المنافق
المبطن للنفاق و الكلام في الكلام الذي يكفر به صاحبه أو لا يكفر و تفصيل الاعتقادات
و ما يوجب منها الكفر أو البدعة فقط أو ما اختلفت فيه من ذلك ليس هذا موضعه و إنما
الغرض أن لا يدخل هذا في قسم السب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيا و إثباتا و الله
أعلم
0 التعليقات:
إرسال تعليق